فصل: مسألة هل يمكن القاضي المشهود عليه من التجريح في كل الشهود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة لا يجوز في التزكية إلا المبرز الناقد الفطن الذي لا ينخدع في عقله:

قيل: أرأيت كل من تجوز شهادته هل تجوز تزكيته؟ قال: لا ليس هو كما ذكرت، وتجوز شهادة الرجل ولا تجوز تزكيته، ولا يجوز في التزكية إلا المبرز الناقد الفطن الذي لا ينخدع في عقله ولا يستنزل في رأيه، ولا ينبغي لأحد أن يزكي رجلا إلا رجلا قد خالطه في الأخذ والعطاء وسافر معه ورافقه، قال مطرف بن عبد الله: لا يجوز في الجرحة والتعديل إلا كل عدل منقطع، وليس كل من جازت شهادته تجوز في الجرحة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه من أنه لا يجوز في العدالة إلا العدل الرضى المبرز في العدالة العارف بوجوه التعديل والتجريح، فإنه لا ينبغي للرجل أن يزكي الرجل حتى يختبره فيعرف من باطنه ما عرف من ظاهره، ولا يكون ذلك إلا بالمخالطة في الأخذ والإعطاء والسفر والمرافقة، وقد مضى ذلك في سماع سحنون، وأما قول مطرف بن عبد الله فمعناه إذا لم ينص الجرحة ما هي، وإنما قال: أشهد أنه ليس من أهل الرضى والعدالة، وأما إذا نص على الجرحة ما هي مثل أن يشهد عليه أنه شارب خمر أو صاحب قيان أو عدو للمشهود عليه، أو ما أشبه ذلك فشهادته بذلك جائزة إذا كان جائز الشهادة وإن لم يكن مبرزا في العدالة، وذلك منصوص له ولأصبغ في الواضحة، قالا: ويجرح الشاهد لمن هو مثله وفوقه ودونه في الإسفاه والعداوة، وقال ابن الماجشون: ولا يجرح في الإسفاه بمن هو دونه، وقد مضى ذلك في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب، وبالله التوفيق.

.مسألة هل ينبغي للقاضي أن يسأله التعديل كلما شهد:

وسئل سحنون: عن الرجل يشهد عند القاضي فيسأله التعديل فيعدل عنده ثم يأتي بعد ذلك بشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين فيشهد عنده أيضا هل ينبغي للقاضي أن يسأله التعديل كلما شهد عنده أو يجتزئ بالعدالة الأولى؟ فقال: نعم يسأله التعديل إذا شهد عنده بعدما عدل بشهر أو شهرين أو سنة أو سنتين، كلما شهد عنده سأله العدالة حتى يكثر تعديله وتشتهر تزكيته مرة بعد مرة ويكثر ذلك عند القاضي فإذا كثر ذلك عنده رأيت ألا يسأله تزكية فيما يستقبل، وفي سماع عيسى من كتاب الجواب إذا شهد بحدثان ما عدل فلا يسأله تعديلا، وإذا طال ذلك فأرى أن يسأله التعديل والثبت.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم الجواب من سماع عيسى مستوفى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الشهادة على الشهادة في العدالة:

وسئل عن الشهادة على الشهادة أتجوز في العدالة كما تجوز الشهادة على الشهادة في الأموال؟ قال: وما معنى قولك في الشهادة على الشهادة في العدالة لعلك تريد العدالة على العدالة؟ فقيل له: إنما أردت أن يكون لي قِبَل رجل علم وأنا أخاف أن يسألني القاضي تعديله، فلا أجد من يعدله إلا رجلين مرضيين أخاف عليهما الموت أو رجلين خارجين في سفر فقلت لهما: اشهدا لي أن فلانا عندكما عدل ورضى، فأشهدا لي على ذلك رجلين، ثم سألني القاضي عدالة شاهديّ، فشهد الشاهدان أن فلانا وفلانا أشهدانا أن فلانا من أهل العدل والرضى، فقال: يطلب القاضي من الخصم من يعدله غيرهما، فإن لم يجد جازت الشهادة فيهما على الشهادة إذا كان الغيب الذين زكياه من أهل الحضر ولم يكونا من أهل البادية؛ لأن البدوي لا يعدل الحضري، وهو الذي سألت عنه من العدالة على العدالة، قيل له: فالتجريح أتجوز فيه الشهادة على ما وصفت لك في العدالة في غيبة الشهود أو مرضهم، فقال: نعم ذلك جائز.
قال محمد بن رشد: في الواضحة لمطرف وابن الماجشون خلاف قول سحنون هذا في أن الشهادة على الشهادة جائزة في التعديل والتجريح، وذلك أنهما قالا: إن العدالة لا تكون في الشاهد إلا عند السلطان من بعد أن يشهد في الحين الذي يقطع بشهادته، فأما أن يسترعي الرجل تعديله الرجل ويشهد على ذلك منه كما يفعل في الشهادة تكون عنده إذا أراد أن يشهد عليها أو يكون الشاهد يحمل شهادته لا يعرفه بالعدالة ولا بغيرها فيعدله عنده من يثق به؛ فهذا الذي لا يجوز ولا علمنا أحدا قاله ولا عمل به إلا أن يشهد شاهد على شهادة شاهد غائب أو ميت فيخبر بعلمه بعدالته مع شهادته على شهادته بالحق الذي أشهد به عليه، ولو أن شاهدا شهد عند حاكم فاستعدله فكان رجل مريض يعدله لا يستطيع بمرضه أن يبلغ إلى القاضي فأراد أن يبعث إلى القاضي تعديله إياه مع رجلين عدلين يشهدهما على أنه عدل فذلك جائز؛ لأن الشهادة قد وقعت عند الحاكم، والعدالة هاهنا إنما هي عند القطع بالشهادة، وقال به أصبغ واستحسنه، وقد ذكر ابن سحنون أن أباه رجع عن الشهادة على الشهادة في العدالة والتجريح إلا في تعديل البدوي فذلك جائز، وما رجع إليه سحنون وقاله مطرف وابن الماجشون في الواضحة هو الصواب إن شاء الله؛ لأن التعديل لا يكون إلا بعد الشهادة، ولو جاز قبل الشهادة لجازت شهادة غير العدل؛ لأن الناس قد تتغير أحوالهم فإنما يعولون عند الشهادة، وبالله التوفيق.

.مسألة شهد هذان الرجلان وهذان الرجلان لرجلين بحقوق مختلفة وزكى هؤلاء هؤلاء:

وسئل سحنون: عن الرجل يأتي بشهيدين على رجل بحق ثم يأتي بشاهدين آخرين يشهدان له أيضا بذلك الحق على الرجل الذي شهد عليه الشاهدان الأولان فيزكي الشاهدان الآخران الأولين، قال: شهادتهما جائزة وتزكيتهما، وقد ثبت الحق على من شهدا له، قيل له: لم؟ قال: من قبل أن الشاهدين قد ثبتا لا محالة؛ ولأن الشاهدين الآخرين زادا صاحب الحق خبرا، أرأيت لو جاءوا مجيء مزكين ألم تثبت تزكيتهم؟ فلما قالوا: شهدنا أن هؤلاء شهدوا بحق وأن الحق لهذا فقد زادوه قوة وتثبيتا لحقه، قيل له: فلو شهد هذان الرجلان وهذان الرجلان لرجلين بحقوق مختلفة، وزكى هؤلاء هؤلاء؟ فقال: تزكيتهم وشهادتهم جائزة، والحق حق لمن شهدوا له.
قال الإمام القاضي: هاتان المسألتان صحيحتان بينتا المعنى فلا وجه للقول فيهما، وبالله التوفيق.

.مسألة الجرحة على السماع:

قيل لسحنون: أرأيت لو أني سمعت رجلين يقولان: نشهد أن فلانا عندنا غير عدل ولا رضى، فشهد ذلك الرجل عند القاضي فأمكن القاضي المشهود عليه من تجريح الشاهد فلم يجد اللذين عرفاه بالجرحة حضورا، هل يجوز لي أن أجرحه على شهادة هؤلاء؟ فقال: لا تجوز الجرحة على السماع، قلت: وكذلك لو سمعت رجلين يقولان: نشهد أن فلانا عدل رضى؟ قال لي: نعم كذلك لا يجوز أن تعدله على السماع.
قال الإمام القاضي: قوله: لا تجوز الجرحة على السماع، وكذلك لا يجوز أن يعدله على السماع، معناه أنه لا تجوز الجرحة على السماع على الوجه الذي ذكره من أن يسمع رجلين يقولان: فلان عندنا غير عدل ولا رضى، أو فلان عندنا عدل رضى فيشهد على ما سمعه منهما؛ لأن ذلك إنما هو شهادة على شهادة ليست بشهادة سماع، ولا يجوز للشاهد أن يشهد على شهادة الشاهد حتى يشهده أو يسمعه يؤديه عند الحاكم أو يشهد عنده على شهادته على اختلاف في ذلك، وأما شهادة السماع في ذلك فهي جائزة، وهي أن يسمع الشاهد من أهل العدل وغيرهم أن فلانا عدل رضى، أو أنه غير عدل ولا رضى فيشهد على السماع بذلك ولا يسمى من سمع منهم فتكون الشهادة بذلك جائزة، وهذا مما لا أعلم فيه اختلافا إلا أنه قد قيل: إن الشهادة على السماع لا تجوز بأقل من أربعة شهداء، وأما العدالة على العدالة فهي جائزة إذا كان الشهود على الأصل غرباء، وإن كانوا من أهل البلد لم يجز ذلك حتى يأتوا بتعديلهم أنفسهم، وسواء كان مُعدِّل الغرباء غريبا أو من أهل البلد، غير أنه إن كان المعدلون من أهل البلد فعدلهم ناس من أهل البلد فلم يُعرفوا لم يجز بعد على أولئك تعديل، ولو كان المعدلون الأولون غرباء فعدلهم ناس من أهل البلد فلم يعرفوا، ثم عدل أولئك غيرهم من أهل البلد فلم يُعرفوا جاز أيضا أن يعدلهم غيرهم ثم لم تجز بعد عليهم، هذا نص قول ما ذكره ابن حبيب في الواضحة، وهو غلط، والصواب ولو كان المعدلون الأولون غرباء فعدلهم ناس من أهل البلد فلم يعرفوا جاز أيضا أن يعدلهم غيرهم، ثم لم يجز بعد عليهم غيرهم، فإذا سقط المضروب عليه فيما نص عليه ابن حبيب صحت المسألة، وبالله التوفيق.

.مسألة عدله أربعة وجرحه رجلان:

قيل له: فإن عدله أربعة وجرحه رجلان، وقد تكافؤا في العدالة والأربعة أعدل من الرجلين اللذين جرحاه إلا أنهم كلهم عدول، بشهادة من تأخذ من ذلك؟ قال: آخذ بشهادة المجرحين؛ لأن اللذين جرحاه قد اطلعا منه على شيء لا علم للمعدلين به.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة معروفا بالعدالة قال المجرحون نشهد أنه غير عدل ولا رضى:

قيل: فلو أن المجرحين قالوا للقاضي: نشهد أنه عندنا غير عدل ولا رضى ولم يصفوه بزنى ولا أَنْبِذَةٍ ولا بِقِيَان هل يكون ذلك تجريحا؟ قال: نعم يكون تجريحا إذا كان الشهود من أهل الانتباه والمعرفة بما يجرح به الرجل، قال أشهب: إذا كان الرجل معروفا بالعدالة مشهورا فيها؟ فقال المجرحون: نشهد أنه غير عدل ولا رضى لم يقبل منهم حتى يبينوا جرحتهم إياه ما هي وينصوها إلا أن يكون الرجل ليس بمشهور في العدالة، وإنما استخبر بمن يعدله فيجزي المجرحين بأن يقولوا: نعلم غير عدل ولا رضى كما يقول المعدلون له نعلمه عدلا رضى.
قال محمد بن رشد: تفرقة أشهب بين من كان مشهور العدالة وبين من لم يقبل إلا بتعديل لها وجه من النظر، وقول سحنون في مساواته بين الوجهين أظهر، والله أعلم؛ إذ قد قيل: إنه ليس للحاكم أن يكشف عن السبب الذي جرحوا به الشاهد؛ لأنهم قد يقولون: زنى وهم أربعة فيرجم إن كان محصنا أو يقولون: شرب خمرا فيحد فستر الحاكم على الشاهد وترك كشفه وإسقاط شهادته لتجريح من جرحه من العدول أولى من الكشف عن أمر قد تسوء العاقبة فيه، وستر المعترف بالذنب أولى من كشفه إلى حكم؛ لأنه إذا بلغ إليه لم يكن له إلا إقامة الحد ولا عفو له ولا شفاعة تنفع إذا رفع إليه والستر عليه يختار ما لم يبلغ إلى حاكم لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لهزال: «يا هزال، لو سترته بردائك؛ لكان خيرا لك». وقوله: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا، فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»، وقوله لصفوان إذ عفا عن سارق ردائه بعد أن رفعه إليه: «فهلا قبل أن تأتيني به» وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة من يستحلف أباه جاهلا في الحقوق:

قيل لسحنون فالذي يقطع الدنانير والدراهم هل يكون هذا جرحة؟ فقال: ليس هذا جرحة عندي وأراه خفيفا، قال أصبغ: قال ابن القاسم في الذي يقطع الدراهم جاهلا بكراهيتها، أو يستحلف أباه جاهلا في الحقوق أنه عقوق، وأنه لا تجوز شهادته، وإن كان جاهلا.
قال محمد بن رشد: قد روي عن ابن القاسم في كتاب ابن المواز في الذي يقطع الدنانير أنه ترد شهادته، إلا أن يعذر بجهل، فهي ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن ذلك ليس بجرحة، وإن لم يكن جاهلا، وهو ظاهر قول سحنون. والثاني: أن ذلك جرحة، وإن كان جاهلا يظن أن ذلك جائز له، وهو قول ابن القاسم، في رواية أصبغ عنه هذه. الثالث: أن ذلك جرحة إلا أن يعذر بجهل، وهو قول ابن القاسم، في كتاب ابن المواز، وهذا الاختلاف عندي إنما هو إذا قطع الدنانير والدراهم وهي وازنة، فردها ناقصة في البلد الذي لا تجوز فيه الناقصة، وهي تجري فيه عددا بغير وزن على أن ينفقها، ويبين بنقصانها ولا يغش بها، فلم ير سحنون قطعه إياها على هذا الوجه جرحة، إذا كان لا يغش بها غيره، ورأى ابن القاسم في رواية أصبغ ذلك جرحة، وإن جهل أن ذلك لا يجوز له؛ لأن المكروه في ذلك بيِّن، لا يصدق أحد في أنه جهله، ورأى ابن القاسم، في كتاب ابن المواز أنها جرحة إلا أن يعذر بجهل، وهذا أعدل الأقوال، وأما إن قطعها وردها ناقصة، وغش بها، فلا إشكال، ولا اختلاف في أن ذلك جرحة، تسقط عدالته وشهادته، وأما إن قطعها وهي مقطوعة أو غير مقطوعة، إلا أنها لا تجوز بأعيانها، وإنما يتبايع بها بالميزان، فلا إشكال ولا اختلاف في أن ذلك ليس بجرحة، وإن كان عالما بمكروه ذلك، ويحتمل أن يكون تكلم سحنون على قطع الدنانير المقطوعة، أو التي ليست بمقطوعة، وهي تجري بالميزان، وتكلم ابن القاسم في رواية أصبغ عنه على قطع الدنانير التي تجوز بأعيانها وردها ناقصة ليغش بها، وتكلم فيما حكى عنه ابن المواز على أنه فعل ذلك، وبين بنقصانها، ولم يغش بها، فلا يكون في شيء من ذلك اختلاف، وقد مضى تحصيل القول فيما يجوز من قطع الدنانير والدراهم، مما لا يجوز في قول أصبغ من سماع ابن القاسم وغيره، من كتاب الصرف، فمن أحب الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله في تلك المواضع، وسيأتي في آخر رسم القضاء المحض، من سماع أصبغ، القول في تحليف الرجل أباه هل هو جرحة أم لا؟ وبالله التوفيق.

.مسألة هل يمكن القاضي المشهود عليه من التجريح في كل الشهود:

قيل لسحنون: أرأيت التجريح هل يمكن القاضي المشهود عليه من التجريح في كل الشهود إذا طعن الخصم في ذلك، أو طلب إليه أن يمكنه من التجريح، هل يمكنه في الرجل البائن الفضل المبرز في العدالة؟ قال: نعم، يمكنه من ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في رسم الأقضية الثاني، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادة ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة المرء يجرح أخوه بأنه عدو:

قال سحنون: إذا جاءت الجرحة في الإخوة والعم الأدنى ذي الرأي والشرف والتجمل؛ فإنه لا يجرح أخ من جرح أخاه ولا عمه الذي هذه حالهما؛ لما يدافع من عيب من هو وجهه ولسانه، ومن جرحته له سبة، وعيب عليه، وهذا كله يرجع من الموالي أنه كان يدفع ذلك عن نفسه، قال: وأما سوى هؤلاء فجرحته وشهادته وعدالته له جائزة، قلت: أفيجرح المرء عن ابن أخيه وعن ابن عمه؟ قال: نعم، هذا... ولا يشتم أحد بابن عمه أنه غير عدل، ولا يدخل منه حشمة ولا عيب إلا ما هو بعيد، لا ترد من أجله شهادته ولا تقوى به تهمته، وسئل عن المرء يجرح أخوه بأنه عدو، هل يجرح أخ المجروح من جرح أخاه؟ قال: نعم، لا عيب في العداوة، ولا حشمة وصير جرحة بالعداوة قليل، ألا ترى أن شهادته في أعظم من الجرحة بالعداوة نفعا وخطرا جائزة، وهو أن يشهد له بالمال العظيم، ويخرجه عنه من شهد عليه بالمال العظيم ذلك جائز منه، لا اختلاف فيه عند أحد من علمائنا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إن هذا الشاهد يجرح من جرح أخاه بعداوة صحيح على القول بأنه يعدله، وأما على القول بأنه لا يعدله، فلا يجرح من جرح أخاه بعداوة ولا بإسفاه، وقد قيل: إنه يجرح من جرحه بعداوة أو بإسفاه على القول بأنه يعدله، وهو ينحو إلى قول من يجيز شهادته له فيما عدا الأقوال مما تقع فيه الظنة بالعصبية والحمية من القتل والحدود، فقول سحنون هذا في تفرقته بين أن يجرح من جرحه بعداوة أو بإسفاه قول ثالث في المسألة، فلا يجوز على مذهبه لمن جرح أخوه بفسق، أن يجرح من جرحه بفسق ولا بعداوة، ويجوز لمن جرح أخوه بعداوة أن يجرح من جرح أخاه بفسق وبعداوة، ولا اختلاف في أن للرجل أن يجرح من جرح عمه بعداوة؛ إذ لا اختلاف في أنه يعدله، وإنما يختلف في تجريح من جرحه بإسفاه على قولين، فإنما يتحصل الثلاثة الأقوال في تجريح الرجل من جرح أخاه، ورأيت لابن دحون أنه قال: معنى قول سحنون إذا جرح عمك وأخوك بفسق، فلا يجوز لك أن تجرح من جرحه بفسق، ويجوز لك أن تجرحه بعداوة، وإن جرح عمك أو أخوك بعداوة، جاز لك أن تجرح من جرحه بفسق أو عداوة، وهو بعيد غير صحيح في المعنى، فتدبره.
وقد مضى في أول رسم، من سماع ابن القاسم، تحصيل القول فيما تجوز فيه شهادة الأخ لأخيه مما لا تجوز، والأصل في هذا الاختلاف كله قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» والظنين المتهم، فاختلافهم إنما يعود إلى ما يغلب على ظن كل واحد منهم في أنه متهم في المعنى الذي شهد فيه أو غير متهم فيه؛ إذ هو الذي تعبد الحاكم كما أنه تعبد في أن يقبل شهادة الشاهد، إذا غلب على ظنه عدالته، ويردها إذا غلب على ظنه أنه غير عدل، أو لم يكن له به علم؛ إذ لا طريق له إلى العلم بذلك والقطع عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة يشهد عليه فيقيم المشهود عليه البينة أنه عدو له مهاجر له:

وسئل سحنون عن الرجل يشهد عليه الرجل، فيقيم المشهود عليه البينة أنه عدو له مُهَاجِر له، هل تسقط عنه شهادته؟ فقال: إن كان عدوا له أصل عداوتهما في أمر الدنيا في الأموال والمواريث والتجارات، ونحو ذلك من أمر الدنيا، فإن شهادته عنه ساقطة، وإن كانت عداوة الشاهد للمشهود عليه إنما هي غضب لله لجرمه وخونه وفسقه، وجرأته على الله، لا لغير ذلك، فأرى شهادته غير ساقطة.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا صحيح مفسر لجميع الروايات؛ لأن العداوة إن كانت غضبا لله، فهي واجبة، ولا تسقط شهادة الشاهد بما هو مأمور به، وواجب عليه، وإنما تسقط بما هو منهي عنه، ومحظور عليه، من الهجران الذي هو محرم في الشريعة؛ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، ولهذا المعنى لم تسقط شهادة القاضي على من أقام عليه حدا، أو ضربه في أمر يوجب عليه الضرب، على ما مضى في أول رسم الصبرة، من سماع يحيى، وبالله التوفيق.

.مسألة بين الرجل وبين آخر خصومة شهادة أحدهما على صاحبه:

قال لسحنون: قال ابن وهب: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال: إن كان بين الرجل وبين آخر خصومة، لم تبلغ تلك الخصومة أن كانت بينهما فيها مشاتمة، فإن شهادة أحدهما على صاحبه جائزة، وإن كان بينهما عداوة معلومة لم تجز شهادته عليه، وإن كانت بينهما عداوة ثم اصطلحا بعد ذلك؛ جازت شهادته عليه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها مستوفى في أول رسم من سماع أشهب، وفي رسم باع شاة، من سماع عيسى، وتأتي في نوازل أصبغ فنتكلم عليها إذا مررنا بها إن شاء الله.

.مسألة شهادة المنجم:

وسئل سحنون عن شهادة المنجم الذي يدعي أنه يعرف القضاء، هل تجوز شهادته؟ قال: هذه جرحة بينة.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه يعرف القضاء؛ معناه أنه يدعي أنه يعرف من ناحية النظر في النجوم ما قضى الله به وقدّره قبل أن يكون، والقول بهذا ضلال ليس بكفر، فهي جرحة بينة على ما قال، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم، من كتاب السلطان، فمن أحب الوقوف عليه، والشفاء من معرفته، تأمله هناك، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة تارك الجمعة:

قال سحنون عن ابن وهب في تارك الجمعة بقرية يجمع فيها من غير مرض ولا علة، قال: لا أرى أن تقبل شهادته، قال سحنون: إذا تركها ثلاثا متواليا؛ للحديث الذي جاء، قال أصبغ: قال ابن القاسم في الذي يترك الجمعة، يرى أن ترد شهادته، إلا أن يعرف له عذر، ويساءل عن ذلك ويكشف، فإن علم له عذر من وجع أو أمر أو اختفاء من دين، أو ما أشبه ذلك؛ فأرى ألا ترد شهادته، وإن كان على غير ذلك رأيت أن ترد شهادته إلا أن يكون ممن لا يتهم على الدين ولا على الجمعة لبروزه في الصلاح وعلمه، فهو أعلم بنفسه، قال أصبغ: والمرة الواحدة في ذلك إذا تركها من غير عذر تهاونا بها ترد شهادته، ولا ينتظر به ثلاثا؛ لأن ترك هذه الفريضة ثلاثا وأقل وأكثر سواء، هي فريضة مفروضة مفترض إتيانها كفريضة الصلاة لوقتها، فلو ترك الصلاة لوقتها متعمدا مرة واحدة لم ينتظر به أن يفعل ثلاثا، وكان بمنزلة التارك أصلا للأبد؛ لأنه عاص لله في قليل فعله دون كثيره، ومتعد لحدوده، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14].
والذي قيل فيمن ترك الجمعة ثلاثا طبع الله على قلبه، إنما هو في الإثم والنفاق، وينتظر به الثالثة للتوبة، فإن فعل وإلا طبع الله على قلبه، وليس ذلك في الترك له هملا، ولا في الإبطال لشهادته، لا، بل يطرح ويوقف ويعاقب إن شاء الله، وقد بلغني عن بعض الأمراء ممن مضى من أئمة الدين، أنه كان يأمر إذا فرغ من الجمعة أن من وجد لم يشهد الجمعة ربط في عمود وعوقب، وأراه عمر بن عبد العزيز، قال أصبغ: لا، بل لا أشك فيه أنه عمر بن عبد العزيز، وقد قال تعالى:
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] عزيمة، وأمر مأمورا به، موجب ليس فيه ترفيه لبعض ببعض.
قال محمد بن رشد: قول سحنون: إن شهادة التارك للجمعة بقرية يجمع فيه أهل الجمعة، لا ترد إلا أن يفعل ذلك ثلاثا متوالية أظهر مما ذهب إليه أصبغ، من أنها ترد بالمرة الواحدة، ومعنى ما ذهب إليه سحنون إنما هو إذا لم يعلم له في ذلك عذر، ولم يكن معروفا بالفضل والصلاح على ما قاله ابن القاسم؛ لأن من لم يعلم بالصلاح والفضل إذا ترك الجمعة ثلاثا متواليا لا يصدق فيما يدعيه من العذر، بخلاف من علم بالصلاح والفضل، فليس قول ابن القاسم وسحنون بمخالف؛ لقول ابن وهب، والله أعلم.
وإنما قلنا: إن قول سحنون أظهر من قول أصبغ من أجل أن المسلم لا يسلم من مواقعة الذنوب، فإذا ثبت هذا وجب ألا يجرح الشاهد العدل بما دون الكبائر من الذنوب التي يقال فيها: إنها صغائر، بإضافتها إلى الكبائر، إلا أن يكثر منها، فيعلم أنه متهاون بها، وغير متوق منها؛ لأن من كانت هذه صفته فهو خارج عن حد العدالة؛ ولما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر ولا علة؛ طبع الله على قلبه بطابع النفاق» دل على أن ما دون الثلاث بخلاف ذلك في عظم الإثم، وشرط الوعيد، فوجب أن يلحق ذلك بالصغائر، ولا ترد شهادة من ترك الجمعة مرة واحدة اشتغالا بما سواه من أمور دنياه حتى يفعل ذلك ثلاثا متواليات، فيتبين بذلك أنه متهاون بدينه غير متوق فيه، وكذلك القول في تارك صلاة واحدة من الصلوات حتى يخرج وقتها من غير عذر، لا يجب أن ترد بذلك شهادته حتى يكثر ذلك من فعله، واحتجاج أصبغ لرد شهادته بذلك، بقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] غير صحيح؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو لمن عصى الله ورسوله بترك الإيمان، وتعدي حدود الإسلام؛ لأن الخلود في النار، إنما هو من صفات الكفار، وبالله التوفيق.

.مسألة هل يجوز للشهود أن يشهدوا لرجل بحق ويجرحوا له الذين شهدوا عليه:

قيل لسحنون: أرأيت الشهود هل يجيز لهم أن يشهدوا لرجل بحق، ويجرحوا له الذين شهدوا عليه في ذلك الحق؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لا إشكال فيه؛ لأن ذلك معنيان، فجائز أن يشهدوا له بهما جميعا كما يجوز أن يشهدوا له بحقين مختلفين، وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة تارك الحج القادر عليه:

وسئل سحنون عن الرجل يكون قويا على الحج كثير المال لا يحج، هل يكون ذلك جرحة يطرح بها علمه؟ فقال: إن كان قويا على الحج لا يعذر بقلة مال، ولا بضعف بدن، وتطاول زمانه، ووفره متصل، ولم يحج، فلا أرى شهادته جائزة، قيل له: فإنه يعرف، وهو ابن عشرين سنة كثير المال، قوي البدن، لم يزل وفره متصلا حتى بلغ ستين سنة لم يحج.
فقال: إذا تطاول أمره هكذا، أو ما أشبه هذا، فإني أرى شهادته غير جائزة كما أعلمتك، قيل له: أفلا يعذر بالأندلس وبعد الشقة والبحر الذي بينهم وبين الحج؟ فقال: لا، قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97]، وهذا إذا كان في موضع يبعد عن الحج، أفلا يرتحل عنها إلى موضع لا يكون بينه وبين الحج بحر، فلا أرى له عذرا، وإن كان بالأندلس.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الحج من أحد دعائم الإسلام الخمس، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا»، فإذا ترك الرجل الحج حتى طال زمانه الستين سنة ونحوها، وهو قادر عليه بوفور ماله وصحة بدنه مع السبيل الآمنة، وجب أن ترد بذلك شهادته، وإنما شرط الطول في ذلك مع القدرة لاختلاف أهل العلم في الحج هل هو على الفور أم في التراخي، فلا يكون من أخر الحج وهو قادر عليه قد أتى كبيرة؛ إذ من أهل العلم من يقول: إن ذلك جائز له، لا إثم عليه فيه، ولا حرج إلا أن يؤخره تأخيرا كبيرا يغلب على الظن فواته به، والذي أقول به: إن ذلك لا يكون إلا بعد بلوغ حد التعمير، وهو سبعون سنة؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «معترك أمتي ما بين الستين إلى السبعين» فمن ترك الحج بعد السبعين، وهو قادر عليه، فهو عندي آثم بإجماع مجرح ساقط الشهادة، وإن لم يقم لنا دليل أنه آثم فيما دون السبعين، فإذن أسقط سحنون شهادته فيما قاربها من الستين من أجل أن من شرط الشهادة أن يكون مرضيا بما يظهر من أفعاله؛ لقول الله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، ومن أخر الحج تأخيرا كبيرا من غير عذر، فليس بمرضي في ظاهر أمره، وإن لم يكن آثما عند ربه بما له في ذلك من السعة باختلاف أهل العلم، وفي المدنية لابن دينار، وابن القاسم من رواية عيسى عنه أن الشيخ الكبير الذي لم يحج وهو موسر، شهادته جائزة؛ لأنه عسى أن يكون له علة، ويقول: أحج بعد اليوم، وهذا صحيح إذا ادعى أن له علة، وأما إن أقر أنه لا علة له، ولم يحج، وهو شيخ كبير، قد تجاوز حد التعمير؛ فشهادته ساقطة على كل حال؛ لأن للواجب على التراخي حالا يتعين فيها الأداء، وهي الحال التي يغلب فيها على ظن المكلف فوات الفعل بالتأخير، وهو بلوغ حد التعمير في مسألتنا هذه، وقوله في أهل الأندلس: إنه لا عذر لهم في ترك الحج بسبب البحر؛ لقدرتهم على الانتقال إلى موضع لا يكون بينهم وبين الحج بحر؛ معناه أنهم إن كانوا من أهل الأندلس بموضع يتعذر الجواز منه، فإنهم يقدرون على الانتقال منه إلى موضع لا يتعذر الجواز منه، فإنما تكلم والله أعلم على ما وصف له من تعذر الجواز في البحر في موضع دون موضع، وبالله التوفيق.